الشريعة الإسلامية والتبرع بالأعضاء


 

تشهد البشرية اليوم والعالم بأجمعه تقدماً سريعاً ومطّرداً، في كافة شؤون الحياة وفي مختلف جوانب النشاط البشري، هذا التطور العملي والتقدم المعرفي يدفع إلى الواقع بمعطيات جديدة لم تكن في السابق، تفرض على المسلم أن يتفاعل معها إما تفاعلاً إيجابياً أو سلبياً، إما بالقبول أو بالرد أو بالقبول المقيد، من هذه المعطيات الحديثة على سبيل المثال لا الحصر، ما كان منها في الجانب الطبي كعمليات الاستنساخ وعمليات الطب الوراثي وعمليات التلقيح الاصطناعي وعمليات زراعة ونقل الأعضاء وغيرها من الأمور الحديثة في التقدم العلمي الطبي، هذا الأمر يلقى بتبعة كبيرة وعظيمة على علماء الفقه والشريعة الإسلامية بأن يخرجوا للناس بفقه معاصر يلبي هذه الاحتياجات، يتماشى مع العصر ومع الواقع شريطة ألا يمس بأصول وقواعد الإسلام العظيمة. و لا شك في أنّ موضوع التبرع بالأعضاء بعد الوفاة من المواضيع التي تطرح العديد من التساؤلات و تعتبر من العوائق التي تكبح تقدم زرع الأعضاء الذي أثبت نجاحا باهرا في مجال الطب الحديث، و أنقذت العديد من الأرواح من الموت و من كثرة الإنفاق و من العذاب و خفّفت العبء الإقتصادي و الإجتماعي على الحكومات و العائلات. و من حق الإنسان المؤمن أن يتساءل لأن الدين يؤثر في حياة 30% من سكان العالم و 90% من سكّان العالم العربي الإسلامي
الشريعة و الحياة
من فضل الله تبارك وتعالى علينا أنه مَنَّ علينا بدين عظيم، وبشريعة رحبة، تتسع لكل زمان ولكل مكان، هذه الشريعة بمقاصدها ومبادئها وقواعدها وأحكامها فيها الحل لكل مشكلة والعلاج لكل داء، هذا الدين العظيم شرعه خالق الإنسان، وخالق هذا الكون وهو الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلِحه وما يفسده (والله يعلم المفسد من المصلح)، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) من فضائل هذه الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أنها لم تنص على الأشياء في كثير من الأحيان بنصوص جزئية تفصيلية، إنما نصت أو جاءت بنصوص كلية وقواعد عامة، ومن ناحية أخرى حتى الأمور التي فيها نصوص تفصيلية تتسع لأكثر من فهم وأكثر من تفسير، ومن ناحية ثالثة فهي راعت الظروف الطارئة والضرورات العارضة للإنسان وقدرت لها قدرها ومن ناحية رابعة فقد قرر علماؤها أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، من أجل هذا لم تضيق الشريعة بأي حادثة من الحوادث في أي بلد دخلت فيها. فلذلك نحن في عصرنا هذا نرحب بكل يجيء به العصر، من ذلك نقول أن الفقه الطبي في عصرنا فقه ثري، نعني بالفقه الطبي الفقه الذي يواكب معطيات هذا العصر ومتطلباته، فقد تقدم الطب تقدماً عظيماً جداً، نتيجة التقدم العلمي والتقدم التكنولوجي والتقدم البيولوجي، فرأينا أن الإسلام والحمد لله وضع حلولاً لكل هذه المشاكل، ومن فضل الله علينا أن يجتمع الفقهاء والأطباء و يناقشون في ندوات لعدة أيام موضوعاً من الموضوعات، يعرض الأطباء ويقرر الفقهاء ويناقش بعضهم بعضاً ثم ينتهون إلى نتيجة.
لكلّ داء دواء
شرّع الإسلام التداوي، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلامتداووا يا عباد الله إن الله الذي أنزل الداء أنزل الدواء قال ذلك للأعراب وقد جاءوا يسألون عن ذلك، وقال ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله وقال لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برء بإذن الله وسئل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها وتقاة نتقيها ورقى نسترقيها هل ترد من قدر الله شيئاً، فقال: هي من قدر الله، وهذا جواب نبوي في غاية الحكمة والروعة، إن الكثير من الناس يظنون أن المسبَبات من قدر الله، والأسباب ليست من قدر الله، الله هو الذي قدَّر السبب وقدَّر المسَبَّب، وشرع لك أن تدفع الأسباب بعضها ببعض، والأقدار بعضها ببعض، الدواء قدر والداء قدر، ادفع قدر الداء بقدر الدواء، ادفع قدر الجوع بقدر الغذاء، ادفع قدر العطش بقدر الري من الماء، وهكذا فهي من قدر الله، ولذلك العلماء قرروا أنه لا مانع من زراعة الأعضاء بشروط سنذكرها لاحقا.
هل يحقّ للإنسان التصرّف في جسمه و هو ملك لله؟
إن الجسم ملك لله تعالى، و كل شيء ملك الله (لله ما في السموات وما في الأرض)، (ولله من في السموات ومن في الأرض)، (ولله ملك السموات والأرض) و المال  هو مال الله تعالى إذ يقول تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)، (ومما رزقناهم ينفقون)، (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) فالمال فضل الله ورزقه، ومع هذا نحن نزكي بالمال نتبرع بالمال، نتصدق بالمال، صدقة جارية أو صدقة غير جارية، أو صدقة مفروضة أو صدقة مندوبة، فلماذا لا نتبرع بجزء من الجسم، ألم يجز الناس من غير نكير بإباحة التبرع بالدم، الدم جزء من الجسم، ولا يحيا الجسم إلا بهذا الدم، ومع هذا يجوز للإنسان أن يتبرع بدمه، كما أن المرأة تتبرع بلبنها فقد ترضع امرأة طفلاً لامرأة أخرى، وهذا اللبن جزء منها، فأن يتبرع الإنسان بجزء منه هذا جائز بشروط طبعاً وضوابط.
و حجة بعض الناس أنّه لا يوجد نصّ صريح يجيز التبرع بالأعضاء. لكن في شريعتنا الأصل في الأشياء الإباحة، فالمحرّم عليه الدّليل لكن المباح ليس عليه دليل. و الرد على هؤلاء الناس هو هل لديكم دليل على تحريمه؟ و بالتالي فإنه يجوز التبرع بالدم ويجوز التبرع باللبن وهو جزء من الإنسان، فلا مانع منه، فإذا كان يجوز للإنسان أن يتبرع بماله فهو يتبرع بشيء من جسمه، وهو أثمن وأغلى، إذا كان في ذلك منفعة للغير وليس فيه مضرة له.
و بالتالي فإن فيما يخص جسم الإنسان يجتمع الحقين معا: حق الله باعتباره الخالق و حق الإنسان باعتباره مستفيدا من حياة الجسد و من الوظائف التي يتيحها له. و هذا التعارض يستوجب الترجيح بين درء المفسدة و جلب المصلحة. و بالنظر إلى مقصد من مقاصد الشريعة في حفظ النفوس و هو حفظ النفوس الحية او التي يرجى حياتها مقدم على حفظ نفس لا ترجى حياتها ، فيجوز التبرع بالأعضاء بشروط و ضوابط.
موقف الدين الإسلامي من التبرع بالأعضاء:
موقف الدين الإسلامي من التبرع بالأعضاء  واضح وصريح وقد صدرت العديد من الفتاوى التي تشجع المسلمين على التبرع بالأعضاء فقد حث ديننا الحنيف على إحياء النفس وجعلها في أعلى المراتب، فقد  قال الله تعالى من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا سورة المائدة الآية 32 


كما يعتبر التبرع بالأعضاء بعد الوفاة من الصدقات الجارية. يقول الرسول صلى الله عليه و سلّم: إذا مات إبن آدم، إنقطع عمله إلا من ثلاث: علم نافع ينتفع به الناس و ولد صالح يدعو له و صدقة جارية فمن تصدّق بأعضائه بعد وفاته تكون له بمثابة الصدقة الجارية و تعود عليه بالرحمة و المغفرة. ويكفي الإنسان أن ينوي التبرع لوجه الله و يكتب على بطاقة تعريفه الوطنية عبارة متبرّع فيحصل له الأجر و الثواب حتّى و إن لم تؤخذ أعضاؤه بعد الوفاة. و هذا ما يؤكّده الحديث النبوي الشريف إنّما الأعمال بالنيات و إنّا لكلّ إمرء ما نوى.



كما أنّ السؤال الذى يمكن طرحه على كل إنسان هو : لو حدث ، لا قدر الله وأحتجت لزرع عضو فى جسمك نتيجة المرض هل تكون ممتنا لشخص تبرع بأعضائه لإنقاذ حياة الأخرين ، ومنهم أنت ؟ بمعنى آخر هل تقبل أن تتلقى عضوا من متبرع فى حالة الحاجة الماسة لذلك ؟ إذا كانت الاجابة بنعم ، فيجب أن يتذكر الانسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويسارع هو الآخر لأن يكون متبرّعا. فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم: لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه.
 شروط  التبرع بالأعضاء
*      يجوز نقل عضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر. و يراعى في ذلك كون الباذل كامل الأهلية و تحقق الشروط الشرعية المعتبرة.
*      تجوز الإستفادة من جزء العضو الذي استؤصل من الجسم لعلّة مرضيّة لشخص آخر كأخذ عظم لإنسان ما عند استئصاله لعلة مرضيّة.
*      يحرّم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي لإنسان آخر.
*      يحرّم شرعا نقل و زرع الأعضاء التناسلية و الغدد التناسلية لاجتناب اختلاط الأنساب.
*      يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو أو تتوقّف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك بشرط أن يأذن الميّت أو ورثته بعد موته أو يشرط موافقة وليّ المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهويّة أو لا ورثة له.
*      لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بأيّ حال من الأحوال.

أعجبتنا شهادته
في شهادته الحية حول التبرع بالأعضاء، صرّح أحد المنتفعين بقرنية قائلا لم أكن من قبل قادرا على قراءة القرآن، لكن بعد زرع القرنية أصبحت متى قمت بختم القرآن للمرحوم أبي أقوم بختم القرآن للمرحوم الذي انتفعت بقرنيته رغم أني أجهل من يكون.
فقلنا هنيئا للمتبرع

أعجبنا ردّه
قال أحد المتدخلين أنه اقتنع بأنّ التبرع حلال لكنه لا يثق في نزاهة الفريق الطبي في إسناد الأعضاء إلى مستحقيها و هو أيضا لا يستبعد وجود المتاجرة بالأعضاء في تونس. فسأله الدكتور المحاضر: هل تتصدق أحيانا  على سائل في الشارع؟. فأجاب المتدخل نعم.
الدكتور: هل تأكدت من أنه محتاج فعلا و من أنه لن ينفق تلك النقود في شراء الخمر مثلا؟
المتدخل: لا لم أفعل، لكن ما أنفقته هو صدقة و أجري ثابت إن شاء الله. ما دامت نيتي أنها صدقة.
فردّ الدكتور : كذلك التبرع، و إن كنت لا تثق في النزاهة في إسناد الأعضاء، كل ما عليك فعل هو ان تنوي تبرعك صدقة و أجرك ثابت إن شاء الله, و قد قال بعض الفقهاء أن المرء إذا نوى ذلك يثاب على ذلك حتى إن لم تؤخذ منه أعضاءه (لم يمت موتا دماغيا).

منقول من مدونة الأخ سعيد :http://greffedufoie.maktoobblog.com/
فكل الشكر والتقدير له

First