نقل الخبر السيء ، مسؤولية الطبيب أولاً




يتعين على الطبيب أحياناً مصارحة المريض بأخبار في غاية السوء ومما لا شك فيه أنه لا أحد يحب أن يكون نذير شؤم أو ناقلاً لخبر السوء ، ولكن هذا هو أحد مهمات الطبيب التي لا بد له من ممارستها بين الوقت والآخر . وإخبار المريض مثلاً بأنه مصاب لمرضى السرطان أو مرض ضعف المناعة المكتسبة من المتوقع أن يكون شديد الوقع على المريض وأهله ويحتاج ذلك إلى مهارات خاصة في الاستشارة الطبية كي يتمكن الطبيب من مصارحة مريضه ، وللتدريب على مهارات تبليغ الخبر السيئ نضرب مثلاً لطريقة إخبار مريض مصاب بمرض خطير وقاتل ( السرطان ) :
·       مثال عملي
بعد التأكد من تشخيص المرض طلب الطبيب من المريض الحضور إلى العيادة للتحدث عن تفاصيل التشخيص والعلاج ، وطلب منه الحضور مع مرافق ( زوجته أو أخيه أو صديقه  ..) ليقويه ويدعمه . جاء المريض حسب الاتفاق وجرى بينه وبين الطبيب هذا الحديث في غرفة خاصة بعيداً عن الضوضاء ودون أية مقاطعات ...
الطبيب : تفضل نتحدث في الغرفة .
المريض : ( يبدو عليه التعجب والقلق ) ..
الطبيب : كيف حالك اليوم ؟
المريض : ما الأمر ؟
الطبيب : كيف تشعر اليوم ( يستعمل التدرج البطيئ في إفشاء الخبر )
المريض : أنا قلق جداً ..
الطبيب : ما رأيك في حالتك الصحية هذه الأيام ؟
المريض : أعتقد أني مصاب بمرض خطير !
الطبيب : هل أنت خائف من مرض معين ؟
المريض : لا أعرف ولكن أعتقد أنه مرض خطير !؟
الطبيب : ماذا قال لك الطبيب في المستشفى ؟
المريض : قال إن طبيب الأسرة سوف يخبرك بالأمر .
الطبيب : ( يتأكد من رغبة المريض الكاملة في أن يعرف )

هل تحب أن تعرف تفاصيل تشخيص المرض ؟

أو هل تحب أن نتحدث عن تفاصيل العلاج فقط ؟
أو هل تحب أن نتحدث مع أحد أقربائك عن التفاصيل فيما بعد ؟
المريض : لا : أريد أن أعرف كل شيئ بالتفاصيل الآن .
الطبيب : للأسف الوضع ليس كما كنا نأمل أن يكون .
اتضح من التحليل والفحص أن هناك تغيرات ( يصف التغيرات التي وجدت في التحليل والفحص دون ذكر اسم المرض ) هل لديك فكرة ماذا تعني هذه النتائج ؟!
المريض : ( بين مصدق ومكذب ) أخبرني أنت أرجوك ( يظهر رغبته في أن يعرف الحقيقة ) .
الطبيب : ( يستجيب لرغبته ويخبره بقدر محدد ) هذا يعني أنك مصاب بمرض ( ويذكر المرض ) .
المريض : يبدو مستاءً .. مستنكراً .. غاضباً .. قلقاً .. ) .
الطبيب : ( يريد أن يتأكد من أن المريض لا زال راغباً في معرفة التفاصيل ) هل تعرف ما هو هذا المرض ؟!
المريض : هل سأموت قريباً ؟
الطبيب : ( يحاول أن يناقش الأمر بموضوعية وبإيجاز وتبسيط وشيئ من التفاؤل ) هذا المرض اسمه ( كذا ) ومعناه ( كذا ) .
المريض : إذاً سأموت قريباً ..
الطبيب : ( يحاول توسيع مفهوم الخطورة عند المريض ) لا أحد يستطيع أن يتنباً بالموت لأي إنسان .. هذا المرض خطير ولكن يمكننا السيطرة عليه إلى حدٍ كبير .. ويمكن أن تعيش بهذا المرض فترة طويلة بأقل أعراض مزعجة إن شاء الله ( يحاول تصحيح مفهوم مرادف مرض خطير أو مرض قاتل باستعماله مرادفات أخرى مثل السيطرة على المرض وأقل أعراض مزعجة
المريض : ... ( لا يعرف ماذا يقول ) .
الطبيب : هل تريد أن تقول شيئاً أو تسألني عن أي شيء ؟
المريض : وما فائدة الكلام !
الطبيب : كيف تشعر الآن ؟ تحدث إلي فهذا قد يساعدك ..
المريض : وما جدوى الحديث ! هذه إرادة الله . ولكن لم أنا بالذات ؟ ما ذا فعلت ليصيبني الله بهذا المرض اللعين ؟ أنا رجل مؤمن أخاف الله .. لماذا يا ربي لماذا .. ؟؟
الطبيب : معك حق فهذا خبر مزعج .. ( ويترك المريض فرصة ليعبر عن وتذمره قد ما يشاء ) .
المريض : ( المريض يبكي بينما يمسك الطبيب بيده معبراً عن تعاطفه ودعمه له ، تاركاً لو وقتاً كافياً ليبكي دون أي تحفظ أو خجل .. ) .
الطبيب : دعنا نتحدث عن شيء أكثر إيجابية ، دعنا نتحدث عن العلاج ..
المريض : وما جدوى العلاج ؟ فقط ليطول تعذيبي أكثر ؟ ( يظهر أنه ليس لديه رغبة في الاستماع ) .
الطبيب : كما تشاء .. ( ويصمت قليلاً يراقب انفعالات المريض ويتأكد من أنه جاد فعلاً ولم يعد يقوى على الاستماع أم أنه يمكنه أن يواصل الحديث معه ) قد يطمئن قلبك قليلاً لو تحدثنا عن العلاج .
المريض : هل هناك أي علاج ؟؟!
الطبيب : هناك أنواع مختلفة من العلاج .. ( كذا  ..  وكذا ... وكذا .. ) كذلك تستطيع أن تعمل ( كذا  . وكذا ... لمساعدة نفسك والتخفيف من حدة المرض ) وأنا سأكون معك دائماً وسوف أساعدك ( يظهر رحمته الوالدية ) فلا تتردد ولا تخجل من طلب أي شيء أو الاستفسار عن أي شيء .
المريض : .. ( بين شاكر وحاقد وغاضب من الخبر ومن الطبيب ... ) .
الطبيب : سنبدأ اليوم بهذا العلاج ( وهو يستعمل هكذا .. وفوائده هكذا ..وأعراضه الجانبية هكذا .. ) وأنا وأعتقد أنه سيفيدك بإذن الله (  يستعمل سلطته الطبية في الطمأنة ) . ما رأيك ؟
المريض : كما تشاء ( يظهر استسلامه )  .
الطبيب : ( يستمر في طمأنته ) معظم الحالات تستجيب بشكل جيد لهذا العلاج .
المريض : وبعض الحالات قد لا تستجيب ! ( يظهر يأسه ) .
الطبيب : دعنا نتفاءل .. وإذا لم يتجاوب مرضك مع هذا العلاج فهناك علاج آخر على أي حال ( يعطيه أملاً منطقياً ) .
المريض : كما تشاء .
الطبيب : هل لديك أي استفسار ؟ هل تريد أن تخبرني عن أي شيء ؟ تفضل أرجوك ولا تتردد .. ( يشجعه على البوح وتفريغ بعض مشاعره الحزينة .. ) .
المريض : شكراً .
الطبيب : هل ستخبر عائلتك بالأمر ؟ أو هل تريدني أن أخبرهم بدلاً عنك ؟ أو أن أكون متواجداً وقتها معك ؟؟؟ أنا على استعداد لعمل ما تريد .. ( يستمر في تقديم رعايته الوالدية الرحيمة ) .
المريض : سافر في الأمر .
الطبيب : إذا احتجت إلى في أي وقت لأي أمر كان اتصل بي فوراً ولا تتردد ( يستمر في إظهار دعمه ورغبته الجادة في المساعدة ) .

التعليق على المحادثة :
¨    مراحل تبليغ الخبر السيئ :
1 – الاستعداد المسبق واختيار لوقت المناسب والمكان المناسب للحديث :
q       الاتفاق على موعد يناسب المريض والطبيب مع مراعاة عدم التأجيل .
q       التلميح بأهمية الموضوع دون التصريح .
q       طلب حضور مرافق مع المريض .
q       الاحتفاظ بحق المريض في حفظ سره .
q       إعطاء وقت كافِ ليس أقل من نصف ساعة .
q       أن يكون الوقت قابلاً للزيادة لو احتاج الأمر إلى ذلك .
q       عدم مقاطعة المحادثة من أي شخص أو لأي أمرِ كان .
q       اختيار مكان هادئ وبعيد عن ضجيج باقي المرضى .
q       اختيار مكان يحفظ الخصوصية وكتمان السر .
q       الجلوس على مقربة من المريض جنباً إلى جنب أو مواجهاً للمريض ولكن بدون أية حواجز .
2- معرفة ما لدى المريض من معلومات وتساؤلات قبل مفاتحته :
q       معرفة إن كان المريض عارفاً أو شاعراً بحقيقة مرضه .
q       معرفة إن كان المريض فعلاً يريد أن يعرف أو يفضل تجاهل الموضوع .
q       تقبل موقف المريض لو كان يفضل تجاهل الأمر أو تأجيل الحديث إلى وقت آخر .
3- الشرح للمريض عن مرضه :
q       الشرح بالتدرج البطيء .
q       الأمانة في عرض المعلومات وعدم إعطاء أمل كاذب .
q       تصحيح مفاهيم المريض التشاؤمية الشديدة عن المرض .
q       التركيز على النقاط الإيجابية الحقيقية عن مآل المرض وعلاجه .
q       الأولوية في النقاش لأولويات المريض واعتباراته الخاصة .
4 – الاستمرار في أخذ تغذية استرجاعية :
q       مراقبة اللغة الشفهية وغير الشفهية الصادرة من المريض والتجاوب معها بالتعاطف والاهتمام .
q       الحساسية الشديدة لمشاعر المريض وتقبل جميع انفعالاته مهما كانت من غضب أو سخط أو بكاء ونحيب .
q       سؤال المريض باستمرار عن مدى فهمه ورغبته في مواصلة الحديث .
5 – الشرح للمريض عن العلاج :
q       توضيح أنواع العلاج المختلفة وإعطاء شرح مبسط عنها يبعث على الأمل .
q       تقديم أقصى درجات الرغبة في المساعدة لطمأنة المريض وتخفيف الصدمة عنه قدر الإمكان .
q   تحمل المسؤولية مع المريض والتعامل معه بأسلوب ( الوالد الرحيم ) لأن استعمال الطبيب لسلطته الطبية وقوته في مثل هذه الحالات تبعث شيئاً من الطمأنينة في نفس المريض وتسمح له بإلقاء جزء من همه على الطبيب  .
q       تذكير المريض بدوره في مساعدة نفسه للسيطرة على المرض كلما كان ذلك ممكناً .

ومعظم المهارات والتوصيات التي ذكرناها عن تبليغ المريض بإصابته بمرض خطير قاتل تنطبق كذلك على تبليغ المريض بأنه مصاب بأي مرض مزمن أو حاد وخطير أو مرض مشين .. ولكن بدرجة أقل ودون حاجة إلى تحضير مسبق للوقت والمكان أو وجود مرافق أو إبلاغ الأهل ..
والحقيقة أن الصعوبة في التعامل مع المرض ذوي الأمراض التي هي على درجة من الخطورة أو الأمراض المزمنة ذات المضاعفات الخطيرة ، ليست فقط في إخبار المريض عنها بل أيضاً ما يترتب علي ذلك من تبعات أخلاقية أو قانونية ويمكننا ذكر بعض المسائل الخلافية في هذا الشأن .

وقفنا في المرة السابقة عند المسائل الأخلاقية وهي كالتالي :
المسألة الأولى : مريض طلب من الطبيب حفظ سره وعدم إبلاغ أي شخص عنه لأي سبب كان

مما لاشك فيه أن للمريض حق على الطبيب في أن يحفظ سره ، إلا أن للقاعدة استثناؤها :
.- إذا كان الطبيب يعتقد أنه من الأفضل للمريض أن يعرف أهله عن مرضه لأن ذلك سيساعد المريض كثيراً ، فعندها يستطيع الطبيب إخبار الأهل حتى لو لم يوافق المريض  .
- قد يرى الطبيب أن حفظ سر المريض يتعارض مع مصلحة أهله كأن يكون المريض مصاباً بمرض جنسي معدِ لزوجته وقد ينتقل إلى أبنائه ، فحقّ الزوجة والأبناء في الحماية من المرض يأتي فوق حقّ المريض في كتمان سر مرضه عنهم    . 
.- قد يرى الطبيب أن حفظ سر المريض يتعارض مع مصلحة المجتمع ، كأن يكون المريض مصاباً بالصرح ومُصِرّ على الاستمرار في قيادة السيارة ، مما قد يؤدي إلى حوادث السير وتعريض أرواح الآخرين للخطر .
- إذا كان لا بد من المشاورة مع طبيب آخر عن حالته المرضية وكانت تلك المشاورة ضرورية وتصب في مصلحة المريض .
- إذا كان هناك طلب قانوني من القضاء بالإدلاء بشهادة الطبيب بما يعرفه عن هذا المريض .

المسألة الثانية : أهل المريض يعرفون التشخيص ويطلبون من الطبيب عدم إبلاغ المريض
على الطبيب هنا أن يتذكر الحقائق التالية ويحاول إقناع الأهل بها
: - وُجد بالدراسات أن ( 80% ) من المرض المصابين بأمراض خطيرة يفضلون أن يعرفوا الحقيقة  ( لأن اليقين أقل إزعاجاً على النفس من الشك (  .

- إخفاء الحقيقة عن المريض سيؤدي إلى صعوبات كثيرة في التفاهم والتعامل داخل الأسرة ويعرض جميع أفراد الأسرة للضغط النفسي الشديد ويحرم المريض من دعم الأسرة له بشكل كامل وصحيح .
إخفاء الحقيقة عن المريض سيؤدي إلى صعوبات كثيرة في تقبل العلاج والتزامه به
- إخفاء الحقيقة عن المريض فيه إجحاف لحقه في أن يعامل كبالغ له حق الاختيار وحق اتخاذ القرار المناسب لنفسه بنفسه
- ويجب أن يكون القرار الأخير يحفظ مصلحة المريض أولاً وقبل كل اعتبارات أخرى ، ويفضل إذا كان بموافقة الأهل قدر الإمكان .
 المسألة الثالثة : توكيل أحد أقرباء المريض بالتبليغ
قد يتبرع أحد أقرباء المريض بتبليغ الخبر السيئ بدلاً عن الطبيب ، وهذا قد يخفف عن الطبيب عبء أن يكون ( نذير الشؤم ) لكن لن يكون ذلك في مصلحة المريض . فالمريض يحتاج إلى شخص يعرف عن مرضه بشكل دقيق ويعرف أساليب العلاج ويعرف عن تطورات المرض المستقبلية ... وهذه المعلومات لا يعرفها إلا الطبيب ، فهو أنسب شخص لتوصيل هذه المعلومات حتى ولو كان هذا الأمر صعباً عليه ويسبب له إرهاقاً نفسياً . وفي مثل هذه الأحوال يفضل الاستفادة من دعم الأهل ومشاركتهم في عملية التبليغ بدلاً من إلقائها بشكل كامل عليهم ، مع الحرص على أخذ موافقة مبدئية من المريض على تدخل أهله بهذه الصورة

من كتاب

الأسس العلمية للاستشارة الطبية
تحليلات ... تدريبات

للدكتورة  / فايزه الريس



1 التعليقات:

اضف تعليقالتعليقات
19‏/1‏/2016، 2:21 م

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

رد
avatar